أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل

#1

افتراضي (وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ ..)تفسير الشعراوى سبأ12-14

(وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ)١٢-سبأ

كما آتينا داود منّا فضلاً، وكان من هذا الفضل أنْ أوَّبَتْ معه الجبال، وألنَّا له الحديد، كذلك كان من فضل الله على ولده سليمان أنْ طوَّعنا له الريح، وجعلناها تأتمر بأمره.


وسبق أنْ بينَّا أن كلمة الريح إنْ وردت مفردة، فهي في الشر والعذاب، وإنْ جاءت جمعاً دلَّت على الخير والرحمة، واقرأ قوله تعالى: { { وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَٱلرَّمِيمِ } [الذاريات: 41-42] وقال: { { بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [الأحقاف: 24].

وفي الرياح قال: { { وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ .. } [الحجر: 22].
وبيان ذلك، أن الريح إنْ كانت مفردة تُعَدّ ريحاً مدمرة؛ لأنها تأتي من ناحية واحدة، والذي يقيم الأشياء ويحفظ توازنها أن الرياح تحيط بها من كل جانب فتستقيم، فالذي يدعم ناطحات السحاب مثلاً الهواء الذي يحيط بها، فإنْ أفرغتَ الهواء من ناحية منها انهارتْ نحو هذه الناحية؛ لذلك كانت الريح الواحدة من جنس العذاب، والرياح من جنس الرحمة، ألاَ ترى الأعاصير تدمر؛ لأنها تأتي من جهة واحدة؟

لكن، هل سخَّر الله تعالى لسليمان الرياح؟ أمْ سخَّر له الريح؟
قالوا: لم تُسخَّر لسليمان الرياح كلها، إنما ريحاً مخصوصة وظَّفها له وطوَّعها لأمره، وهذه الريح أعظتْ سليمان عليه السلام عزَّة ومنعة. بحيث لا يَقْوَى أحد على مواجهته أو التصدي له.
لذلك كان هو - عليه السلام - النبي والملك الذي لم يحاربه أحد، ولم يجرؤ أحد على منازعته مُلْكَه ولا نبوته. كيف وفي يده من القوة ما لم يتوفر لغيره، فسلطانه سلطان قَهْر إنْ أراد شيئاً أذعن الجميع لإرادته.
أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فجاءت دعوته لاستمالة القلوب، لا لإرغام القوالب؛ لذلك خاطبه ربه بقوله: { { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [الشعراء: 4].

ومعنى: { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ .. } [سبأ: 12] الغدو: السير أول النهار، والرواح: العودة آخر النهار
{ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ .. } [سبأ: 12] أى: أذبْنا له النحاس، كما ألنَّا لأبيه الحديد، فهذه واحدة من الأفضال التي خصَّ الله بها سيدنا سليمان، تذكرون قصة السد الذي بناه ذو القرنين، فلما انتهى من بنائه قال: { { آتُونِيۤ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } [الكهف: 96] يعني: نحاساً مُذَاباً، بحيث لا يستطيع أحد أنْ ينقبه.
ثم يذكر الحق سبحانه أمراً آخر مما خصَّ به سليمان عليه السلام: { وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ .. } [سبأ: 12] ومعنى { بِإِذْنِ رَبِّهِ .. } [سبأ: 12] أن المسألة كلها تسخير من الله لنبيه سليمان، وليس أمراً ذاتياً من عنده.




لذلك قال:
{ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا .. } [سبأ: 12] أي: يميل، أو ينحرف عنه، أو يعصاه { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } [سبأ: 12] فأَمْر سليمان للجن من باطن أَمْر الله، ومَنْ يَعْصِ أمره كأنه عَصَى أمرنا.



(يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ)١٣-سبأ

المحاريب: جمع محراب، ويُطلق على القصر الفخم الواسع، وعلى المكان الذي يتخذه الناس للعبادة، ومنه قوله تعالى: { { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً .. } [آل عمران: 37].
والتماثيل: جمع تمثال، وهو ما يُنحَت من الحجر مثلاً، أو يُصوَّر على هيئة إنسان، أو حيوان، أو طائر .. إلخ. وفي مسألة التماثيل بالذات يطرأ سؤال: أيمتنُّ الله على نبيه سليمان بأن الجن تصنع له التماثيل مع ما عُرِفَ عنها من أنها رمز للإشراك بالله، وقد حطمها الأنبياء ونهَوْا عن عبادتها من دون الله؟
قالوا: حُطِّمت التماثيل لَمَّا اتخذها الناس للعبادة والألوهية، وكانت من قبل لا تتخذ للعبادة، بل للخدمة، وللدلالة على الإهانة والإذلال، ألم نَرَ في الآثار القديمة كرسياً أو مائدة تقوم على هيئة مجموعة من الأسود مثلاً؟

وحتى الآن توجد قصور تقوم شُرفاتها على هيئة رجل مُنْحَنٍ يحمل الشرفة بدلاً من الخرسانة التي نصنعها نحن الآن، إذن: كانت التماثيل تدل على الإذلال والإهانة، فلما عُبِدت أُمِرنا بتحطيمها وتحريمها.
وقوله: { وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ .. } [سبأ: 13] الجفان: جمع جَفْنة، وهي القصعة المعروفة { كَٱلْجَوَابِ.. } [سبأ: 13] كالحوض الواسع الكبير، وهذا كناية عن كرمه وكثرة إطعامه الطعامَ { وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ .. } [سبأ: 13] أي: قدور ثابتة لِكِبرها، فهى لا تُرفع ولا تُحرَّك من مكان لآخر لعِظَمها.

لذلك حُدِّثنا في سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابن مطعم قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جفنة (قصعة طعام) كنت أستظل بها في اليوم القائظ في مكة، وهذا دليل على سِعَتها وكِبَرها وكثرة من يُطْعمون منها.
ولما بنى الملك عبد العزيز آل سعود الرياض جعل بها قُدوراً للطعام، وكان القِدْر يسع الجمل يقف بداخله، وأذكر أنني أول ما ذهبت إلى مكة دخلت المبرَّة، فوجدت بها قدوراً واسعة، فوقفتُ في إحداها فوسعتني.
ومعنى { ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً .. } [سبأ: 13] أى: شُكْراً لله على نعمه، لا لتقوتوا أنفسكم فحسب، إذن: فربُّك يُعلِّمك: لا تعمل على قدر حاجتك فحسب؛ لأن في مجتمعك مَنْ لا يقدر على العمل، فاعمل أنت أيها القادر على قَدْر طاقتك، وخُذْ لنفسك ما يكفيك، وتصدَّق بما فاض عنك لغير القادرين. ومعلوم أن شكر النعمة يقيدها أي يديمها بل ويزيدها، كما قال سبحانه: { { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ .. } [إبراهيم: 7].
أو: المعنى { ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً .. } [سبأ: 13] أن أقدركم على العمل حتى تعولوا مَنْ لا يقدر على العمل { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ: 13] يعني: قليل من الناس مَنْ يقابل نعمة الله بالشكر.

لذلك رُوِي أن سيدنا عمر - رضي الله عنه - سمع في الطريق رجلاً يقول: اللهم اجعلني من القليل، فتعجَّب عمر من دعوة الرجل، ولم يفهم معناها، فسأله عنها، فقال الرجل، سمعت الله يقول: { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ: 13] وأنا أرجو أن أكون منهم، فقال عمر متعجباً: كل الناس أعلم منك يا عمر؟!
فمن الناس مَنْ عنده مَلَكة التقاط المعاني وتوظيفها، من ذلك ما يُحكَى من أن رجلاً كان يسير في سوق البطيخ في بغداد وهو صائم في يوم حار، فمرَّ برجل يبيع شراباً مثل العرقسوس مثلاً، وينادي: غفر الله لمن شرب مني، فمال إليه وقال له: اسْقِني، فقال له صاحبه: تذكر أنك صائم، فقال: والله لقد رجوتُ دعوتَه.
رجل آخر كان يسعى بين الصفا والمروة، والمسعى زمان - أنتم لم ترونَهُ - كان عبارة عن شارع به دكاكين وبيع وشراء وحركة قبل أنْ يُطوِّر بهذا الشكل الحالي، وكان به رجل يبيع الخيار وينادي: العشرة بريال يا خيار، فسمعه رجل يسعى، فقال متعجباً: إذا كان الخيار العشرة بريال، فَبِكم يكون الأشرار؟!

(وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ ..)تفسير الشعراوى سبأ12-14
(فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ١٤-سبأ

إن من الأشياء التي سخَّرها الله لسليمان ليحقق له مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده أنْ سخَّر له الريح وسخَّر له الجن يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل .. إلخ.
وتسخير الجن يعني: أن الله سبحانه وتعالى سخَّر له أخفَّ الخَلْق حركة وأخفاها وهم الجن؛ لأن للجن طبيعة مخصوصة؛ لذلك قال الله عنهم: { { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ .. } [الأعراف: 27].
ولهم أيضاً خِفَّة في مزاولة الأعمال بأن يقصروا زمنها، وأنْ يكثروا حملها، والدليل على ذلك أن سليمان - عليه السلام - حينما طلب عرش بلقيس، وكان في سبأ قال لجلاَّسه: { { أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } [النمل: 38] فلم يتكلم أحد من الإنس؛ لأن سليمان قيَّد الإتيان بزمن فوق قدرة البشر، وقد طلب سليمان العرش بعد أنْ علم أن قوم سبأ قد خرجوا وهم في الطريق إليه، ويريد مَنْ يحضر عرش بلقيس قبل أن يصلوا إليه.
حتى الجن لم يتعرض لهذه المهمة جنيٌّ عادي، إنما عفريت من الجن { { قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن ٱلْجِنِّ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ .. } [النمل: 39].


وكلمة (عفريت) تعني: أنه الماهر من الجن، الشاطر الذي يأتي بما لا يأتي به غيره من بني جنسه، وهذا يدل على أن الجن منهم العفريت الماهر ومنهم (اللبخة) يعني: مثلنا تماماً. وما زلنا في لغتنا العامية نقول: فلان عفريت يعني: ماهر يجيد ما لا يجيده الآخرون.
لكن، كان في مجلس سليمان مَنْ هو أمهر من العفريت وأكثر منه خبرة وخفَّة، إنه الذي أُوتي قَدْراً من العلم { { قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ ٱلْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ .. } [النمل: 40].
فإن كان العفريت سيأتي بعرش بلقيس قبل أنْ يقوم سليمان من مقامه، وربما أقام سليمان في مقامه هذا ساعة أو عدة ساعات، لكن الذي عنده علم من الكتاب تعهد بأنْ يأتي به { { قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ .. } [النمل: 40] وارتداد الطَّرْف لا يحتاج إلى زمن طويل، فالطرف يطرف في الدقيقة الواحدة عدة مرات.
لذلك صوَّر الحق سبحانه سرعة الاستجابة لهذا الفعل، فقال: { { فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِيۤ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } [النمل: 40].
ولم يتعرَّض السياق لتفاصيل الإتيان بالعرش، ولم يذكر حتى أن سليمان أمره بالإتيان به، بل: { { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ .. } [النمل: 40] هكذا مباشرة؛ لأن الفعل نفسه لم يستغرق وقتاً، وكذلك جاء التعبير سريعاً مباشراً.

والحق - سبحانه وتعالى - يعلم أن الجن كانوا يَسْترقون السمع قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، أما بعد بعثته صلى الله عليه وسلم فقد منعهم الله من استراق السمع، فقال سبحانه: { { فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } [الجن: 9].
وهذه واحدة من ميزات رسالته صلى الله عليه وسلم، فقبل رسول الله صينَ سر السماء جُلُّه. وبعده صلى الله عليه وسلم صِينَ سرُّ السماء كلُّه. قبل رسول الله كان الجن يصعدون في السماء يسترقُون السمع، ويلتقطون بعض كلام الملائكة، ثم يوحونه إلى أوليائهم من شياطين الإنس، كما قال سبحانه: { { وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَٰدِلُوكُمْ .. } [الأنعام: 121].
ثم يخبرون الناس بما علموا، ويدَّعُون أنهم يعلمون الغيب، وفعلاً تأتي الأحداث كما أخبروا، فيغشُّون الناس ويخدعونهم ويفتنونهم؛ لذلك أراد الحق سبحانه أنْ يفضح الجن في هذه المسألة، فقال:


{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ .. } [سبأ: 14] أي: على سليمان، وكلمة (قَضَيْنَا) تعني: أن الموت قضاء، لا مندوحة عنه، ولا يترتب على سبب من مرض أو كِبَر أو غيره، وكما قُلْنا: والموت من دون أسباب هو السبب، يعني: مات لأنه يموت.
لذلك يخاطب الحق سبحانه الأحياء، بما فيهم سيدنا رسول الله بقوله: { { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [الزمر: 30] ويخاطبه هو صلى الله عليه وسلم أولاً قبل أنْ يخاطب أمته بهذه الحقيقة.
ومعنى (ميِّت) أى: تؤول إلى الموت، فنحن ونحن أحياء ميِّتون أي: سنموت، أما الذي مات بالفعل فيسمى (مَيْت) بسكون الياء، كما قال الشاعر:
* ومَا الميْتُ إلاَّ مَا إلَى القَبْر يُحْمَلُ
لذلك، فإن العلماء لما أعطوْنَا صورة حِسِّية للموت قالوا: مع حياتك التي بدأت انطلق معها سهم الموت إليك، فعُمْرك بمقدار وصوله إليك، فنحن - وإنْ كنا أحياء - ميتون.
وقوله تعالى: { مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ .. } [سبأ: 14] أي: دلَّ الجن، فضمير الغائبين في (دَلَّهُم) يعود على معلوم من السياق الأول في: { { وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ .. } [سبأ: 12].
قالوا في قصة سيدنا سليمان عليه السلام أنه كان يعبد الله ويشكره بمقدار ما أنعم عليه وما أعطاه من الملْك، فمع كل هذه النِّعم كان يقضي الأسبوع والشهر ولا يأكل إلا الخشكار، وهي (الردة) التي نعرفها، وهي آخر درجة في الدقيق، والتي نسميها في الفلاحين السِّن، وهو طعام الفقراء والعبيد، أما السادة والأغنياء فيأكلون الدقيق الفاخر أو (نمرة واحد).
وسبحان الله، أظهر العلم الحديث أن الفائدة في هذا السنّ الذي يأكله الفقراء، لدرجة أنه أصبح يُوصَف كدواء، ويجعلونه الآن على هيئة أقراص كعلاج لبعض الأمراض، حتى أن أهل الرفاهية الذين عاشوا على الدقيق الفاخر وتغذَّوْا طوال حياتهم على الخبز السياحي والقطايف .. إلخ. يأتي الواحد منهم في أواخر حياته فيُحرِّم عليه الطبيب كل هذه الأنواع ولا يجد له دواء إلا في السنِّ وفي الردة التي ما ذاقها طوال حياته، وكأنها معادلة لا بُدَّ أنْ تتم بين الأغنياء والفقراء.
وهذه البحوث التي أظهرت لنا أهمية (الردة) تلفتنا وتُفهمنا معنى قول الله سبحانه وتعالى وقسمه: { { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ } [الرحمن: 12].

كذلك كان سيدنا سليمان يعبد الله واقفاً، لا على هيئة مريحة، فكان يشق على نفسه شكراً لله، ويقف عابداً لله حتى يتعب، فيراوح بين قدميه، ثم يستعين بالعصا يتكىء عليها من شدة تعبه.
وقد قضى الله عليه الموت، وهو على هذه الهيئة، فلم يكتشف الجن موته، وظلوا يعملون بين يديه ويجتهدون خوفاً منه عليه السلام.

وأراد الحق سبحانه أن يُنهى بموت سليمان مسألة شغلتْ الجن والإنس، هي قضية علم الجن للغيب، أراد سبحانه أن يفضح الجن، وأنْ يُظهر عجزهم عن علم الغيب، فالغيب لا يعلمه إلا الله.
مات سليمان واقفاً متكئاً على عصاه، وظل على هذه الحالة حتى سلَّط الله على عصاه دابة الأرض، كما قال سبحانه: { مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ .. } [سبأ: 14].
البعض يفهم أن { دَابَّةُ الأَرْضِ .. } [سبأ: 14] الأرض التي تقابل السماء، لكن المراد الدابة التي تَقْرِض كما نقول: قرض الفأر كذا وكذا، وفعلها قرض يقرض قَرْضاً. مثل: ضرب يضرب ضرباً، وهذه الدابة هي العتة التي تصيب الخشب وتأكله.
هذه الدابة أو العتة ظلتْ تنخر في العصا حتى اختلَّ توازن سليمان عليه السلام، فسقط على الأرض { فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } [سبأ: 14] أي: ما مكثوا وما ظلُّوا في العذاب المهين. ومعنى خَرَّ: سقط بلا نظام، كما جاء في قوله تعالى: { { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ .. } [النحل: 26].
فالخرور انهيار بلا نظام وبلا ترتيب، وعندها فقط عَلِم الجن بموت سليمان، وكذلك الإنس، وعلموا أنهم لا يعلمون الغيب، ولو علموا الغيب لاكتشفوا موته، وما لبثوا في العمل، وفي التعب والعذاب طوال هذه المدة، عندها انكشف أمرهم، وعُلم كذبهم وادعاؤهم معرفة الغيب.

وقوله تعالى: { مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } [سبأ: 14] يدل على أن الجن يتعب من العمل ويطرأ عليه ما يطرأ على كل حىٍّ من تعب وإجهاد.
والمِنْسأة هي العصا من الفعل نَسَأ بمعنى أخَّر، وسُميَتْ العصا منسأة؛ لأن الإنسان يزجر بها الهوام والحيوانات الضارية التي تؤذيه ويؤخرها عنه ويبعدها ويُردعها؛ لذلك سميت منسأة.


وسيدنا موسى - عليه السلام - قال في عصاه لما سأله ربه: { { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } [طه: 17-18].
وقد أطال موسى الحديث مع الله؛ لأن الله تعالى آنسه أن يطيل حين قال له { { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } [طه: 17] ولم يقل له مثلاً: ما بيدك؟ ثم مَنِ الذي يخاطبه ربه ولا يطيل الحديث معه سبحانه وتعالى؟ ومع ذلك تدارك موسى أمره، فقال مُجْمِلاً { { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } [طه: 18].
ونفهم من قوله تعالى: { مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } [سبأ: 14] أن العمل الذي كانوا فيه كان عملاً شاقاً وفيه إهانة لهم؛ لأن الجن يظنون أن لهم خيرية على الإنس، وأنهم جنس تسامى على البشر، بدليل قول أبيهم من قبل: { { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [الأعراف: 12].
فمن الإهانة لهم، ومن العذاب أنْ يُسخَّروا لواحد من الإنس، ويعملون له، ويأتمرون بأمره، فالعمل الذي كانوا يعملونه لسليمان إنْ لم يكُنْ مُرهقاً لهم بدنياً فهو مرهق نفسياً، ولم لا وقد سخَّرهم مَنْ هو أدنى منهم - على حسب ظنهم.
ولسائل أنْ يسأل: كيف يكون في العذاب المهين مَنْ يخدم نبياً ويعاشره؟ نقول: هذه الشبهة جاءتْ من كلمة الجن، ففهمنا أن الجن كلهم كانوا مُسخَّرين لسليمان، والحقيقة أن الجنَّ سُمِّي كذلك؛ لأنه مستور الفعل لا نراه، والذي سخر من الجن هم الشياطين، كما قال سبحانه: { { وَٱلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ } [ص: 37].
وقال: { { وَمِنَ ٱلشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذٰلِكَ .. } [الأنبياء: 82] وهؤلاء هم أصحاب العذاب المهين، أما مؤمنو الجن فلم يكونوا مُسخَّرين.


وكلمة (خَرَّ) بمعنى سقط توحي بأن كرامة الإنسان في روحه، وفي السر الذي وضعه الله فيه، فهذا سليمان نبي الله بجلالة قدره ومكانته عند ربه يقول عنه { فَلَمَّا خَرَّ .. } [سبأ: 14] وكأنه جماد سقط على الأرض؛ لأن الروح حينما تفارق الجسد يصير كالجماد، كالعصا وكالحجر.
وسبق أنْ قًلْنا: إن الروح ساعة تُسلَب من الجسد أول ما ينسى ينسى اسمه مهما كان عظيماً، ويقولون: الجثة ثم إذا ما وُضِعَتْ في النعش يقولون: الخشبة.
سبحان الله، لم يَعُد لهذه المادة أية صفة، بل ويسارع الأهل والأحبة إلى الخلاص منها ودفنها بأسرع ما يمكن، ولو بقيتْ عندهم لا يتحملها أحد منهم، لما يطرأ عليها من تغيُّر ورائحة يتأذى منها أقرب الأقارب.


التفاسير العظيمة





قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى
مختارات من تفسير الآيات 3 امانى يسرى القرآن الكريم
مختارات من تفسير الآيات 1 امانى يسرى القرآن الكريم
تفسير قصة داود المذكورة في سورة ص امانى يسرى القرآن الكريم
*تفسير سورة النســـاء كاملة* أم أمة الله القرآن الكريم


الساعة الآن 12:54 AM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل