أو

الدخول بواسطة حسابك بمواقع التواصل



https://adlat.net/showthread.php?t=262609
736 3
#1

14 الفردة المفقودة

الفردة المفقودة





الفردة المفقودة

للكاتب القصصي/ باسم إبراهيم عبدو

تذكَّر صابرُ تلكَ السَّاعاتِ الموحشةَ، عندما كانت الدَّبابةُ تَهْمُرُ، تحفرُ طريقَها صاعدةً إلى أعلى التَّل.‏

حَبسَ أنفاسَهُ، ويدُهُ تشدُّ بقوّةٍ على الزِّنادِ بقبضةٍ متماسكةٍ، وبإشارةٍ من يدِهِ اليُسرى كانت مجموعتُهُ في حالةِ التأهُّبِ الكامل. بينما الزمنُ يوزّعُ فتاتَ الصَّبرِ، ويسلخُ الرَّجلُ جلدَ الأملِ... يتمنَّى أن يظلَّ يَحْلُمُ كي ينسى ساقَهُ التي تتمرّغُ بالدمِ والتراب.‏

تقتحمُ ذاكرتُه صورٌ شتَّى، وهو مُسجَّى على سريرٍ في مشفى حكومي. وبين حينٍ وآخر، يتجاهلُ عن قصدٍ زوَّارَهُ الذين يُمْطِرونَهُ بوابلٍ من نيرانِ الحُبِّ يحكونَ له عن بطولاتِ الجنودِ. يقرؤونَ قِصَّةَ الكمينِ بمئةِ لسان، وعشراتِ المفرداتِ تَفْلُتُ من سُبْحةِ الموت.‏

يفتحُ عينيه.. يحاولُ أن يَصُرَّ الأشياءَ المفقودة.. ينهضُ الشَّوقُ من محنتِهِ منكسراً. أمّا عيناه فتظلاّنِ مُعلَّقتينِ في سقفِ الغرفةِ، تبحثانِ في فراغٍ مسكونٍ بالخوف.‏

يتحسّسُ ساقَهُ.. تتراجعُ أصابِعُهُ، فيدسُّهَا في صدرِهِ... وتغرقُ بحُزنٍ عميقٍ بين أضلاعهِ. تتشرَّبُ رائحةً مُثْخنةً بالعرق... يبتسمُ بمرارةٍ رُغمَ أنَّ مفعول الحُقنةِ المسكّنةِ لم يبدأ بعد.. تتلامحُ على شاشةٍ قديمةٍ مُغبَّشةٍ الصُّورُ التالية:‏

* الصُّورةُ الصّباحية:‏
أوراقُ اليانصيبِ المُثبَّتةِ بملقطٍ معدني. عُكَّازةٌ خشبيةٌ مُطعَّمةٌ بالنُّحاس، وساقٌ مقطوعة… كُرسيٌّ من القشِّ الرَّخيصِ.. صوتٌ مُهترئٌ يكادُ لا يُسمعُ وسَطَ حشدِ المارة.‏

* الصُّورةُ المثقوبة:‏
كلَّما حاولَ أن يجمعَ في ذاكرتهِ ما حدثَ في ظهيرة ذاكَ اليوم، سَرْعانَ ما تتساقطُ أوراقُ الفرحِ، ويلتهمُ النسيانُ ما تجرَّعَتْهُ الأوجاعُ، عندما هبطتْ على ساقِهِ شظيةٌ زِنة ثلاثة أرطال، سحنتْ عظمَهَا وتركتَها مُعلَّقة. وفي أوّلِ حركةٍ انفصلتْ عن جسدِهِ، وبقيتْ النَّقالةُ الكُتَّانيةُ مُشْبعةً ببُقعِ الدم.‏

* الصُّورةُ الغائبة:‏
يتلذّذُ صابرُ في تقليبِ ألبومِهِ. يداعبُ الماضي تارةً، ويفتحُ الطَّريقَ لآهاتٍ مُمزَّقةٍ، وأنفاسٍ خاويةٍ، مُرْتعشةٍ تارة أخرى. تدوّي صارخةً في تجويف سرّيٍ.‏

يحاولُ أن يُعيدَ صناعتَها وسَكْبَها في قالبٍ على مقاسِ السَّاقِ المقطوعة، ولم ينجحْ مرَّةً في استكمالِ نسيج أوهامِهِ وتخيّلاتِه.‏

وبينما كانت صَافراتُ سياراتِ الإسعافِ تَحْقُنُه بالوجعِ، تسوءُ حالتَه ولا يصحو إلا عندما تُدقُّ المساميرُ في نعشِهِ، ويبدأُ المنشارُ الكهربائيُّ يفرمُ عظامَهُ!‏

* الصُّورةُ الرَّاقصة:‏
تتلألأُ بفرحٍ… تتجمّعُ خيوطُهَا، وتنسجُ الابتسامات… ترسمُ فوقَها أوراقَ الحَبقِ والنعناعِ.. ترتجفُ أوصالُهُ، وهو يطبعُ قُبلاتهُ على خدودِ أولادهِ الأربعة وابنتهِ الوحيدة.‏

يشعرُ أنَّ رائحةَ الحياةِ، تعودُ إليه رضيّةً هانئة. تنفثُ شموخَهَا في أجواءٍ حميمةٍ مُدْهشة، بعناقيدِها وحلاوتِها وبهجَتِهَا، مع صورة الرَّامي حسن، المُثبَّتةِ في قلبِهِ، وهو يلفظُ أنفاسَهُ الأخيرة، عندما مزَّقتْ قذيفةٌ إسرائيليّةٌ جسدُهُ، وألقتْهُ في الحُفرة المجاورة.‏

ويأسفُ لأنّه لم يستطعْ إنقاذه! لكنَّه يتأمّلُ بسعادةٍ عظيمةٍ، كيف كانت الدَّبابةُ تشتعلُ، وقذيفةُ آربي جي تخترِقُها ولم يَنجُ طاقمُها، وما تبقَّى دخانٌ ورمادٌ وشرور!‏

* فَرْدةُ الحذاء:‏
تساءلَ صابرُ بعد أن صَحا عن فردة الحذاء! قالتْ زوجتُهُ: ظلَّتْ ملتصقةً بقدمِكَ... دُفِنتْ مع ساقِكَ... وأشارتْ إلى مكانِها. أمَّا الفردةُ الثانيةُ فأُعيدتْ إلى مستودعِ المُهمَّاتِ حَسَبَ الأصول!‏

* الصُّورةُ قبل الأخيرة:‏
مزَّقَ صابرُ الصُّورةَ قبلَ الأخيرةِ في ألبومِهِ.. سجَّى ذاكرتَهُ في تابوتِ حُلُمْ عقيم. اتَّكأ على عكَّازتِهِ، ونهضَ عندما سمعَ طَرَقاتٍ قويّةً على البابِ الخارجي.‏

تابَعَتْهُ عيونُ الأسرةِ بِنظراتِهَا.. تشابكتْ خيوطُ البصرِ فوقَ جسدهِ، وهي تبحثُ عن سرِّ الزّيارةِ المفاجئةِ لساعي البريد، في هذا الوقتِ المُبكّرِ من صباحِ اليوم، بينما كانت زوجتُهُ تحضِّرُ له حقيبةَ السَّفرِ إلى بلدٍ أوروبيّ، يشتهرُ بصناعةِ الأطرافِ البشرية!‏

* الصُّورةُ الرملية:‏
عادَ صابرُ خائباً مُتراخياً مصفوعاً، وهو يقرأُ كتاباً مطبوعاً ومختوماً... يداه ترتجفان... يتراقصُ جسدُهُ على خازوقٍ عثمانيٍّ... صوتُهُ يتهدَّجُ، وتطحنُ أضراسُهُ كلماتٍ مدسوسةً في قاموسِهِ، طَبعتْ بُقعاً قُزحيَّةً، وغابَ طيفُ الأملِ... ذابَ في بطنِ الدهشةِ المُريبةِ!‏

بلَّلَ الوجومُ الجدرانَ والأحلامَ والوجوهَ. تدحرجتْ دموعُهُ سَكْرى فوقَ خدّي الشَّطرِ الأخيرِ, وارتفعَ صوتُهُ وهو يقرأُ:‏

يُطلبُ من المساعدِ الأوَّل صابر بن محمد السَّكران، مُراجعةَ دائرةَ جرحى الحرب، لدفعِ غرامةٍ ماليةٍ مُقابلَ فردةِ الحذاءِ المفقودةِ في كمينٍ تلِّ الجُرْف!!


الفردة المفقودة



إظهار التوقيع
توقيع : وغارت الحوراء
#2

افتراضي رد: الفردة المفقودة

حلو كتير حبيبتى سلمتى
إظهار التوقيع
توقيع : ورده الحياه
#3

افتراضي رد: الفردة المفقودة

رد: الفردة المفقودة
إظهار التوقيع
توقيع : حياه الروح 5
#4

افتراضي رد: الفردة المفقودة

قصة جميلة


قد تكوني مهتمة بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى
[قصص مرعبة] الرحلة والحلقة المفقودة (قصة قصيرة) صفاء الحياة قصص - حكايات - روايات
تواصل عمليات البحث عن الصندوقين الأسودين للطائرة الماليزية المفقودة سارة سرسور اهم الاخبار - اخبار يومية
8 دول تشارك فى البحث عن الطائرة الماليزية المفقودة سارة سرسور اهم الاخبار - اخبار يومية
تحميل كتاب أوراق الموساد المفقودة لجاك تايلور ريموووو مكتبة عدلات
تقليل 300 سعر حرارى تقى من استعادة الدهون المفقودة ام الاء وبيان2 طرق التخسيس وانقاص الوزن


الساعة الآن 11:49 PM


جميع المشاركات تمثل وجهة نظر كاتبها وليس بالضرورة وجهة نظر الموقع


التسجيل بواسطة حسابك بمواقع التواصل